الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثانية:مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتًا ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما: أن نسجه فيه فائدة له، لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه، واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا، لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني: هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتًا أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة، لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتًا وكلاهما باطل.المسألة الثالثة:كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر، فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباءً منثورًا، فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى: {وَقَدمْنَا إلى مَا عَملوا منْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاه هَبَاء منثورًا} [الفرقان: 23].المسألة الرابعة:قال: {مَثَل الذين اتخذوا من دون الله أَوْليَاء} ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضًا، فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ وليًا غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتًا.ثم إنه تعالى قال: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}.إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر فكذلك عملهم لو كانوا يعلمون.{إن اللهَ يَعْلَم مَا يَدْعونَ منْ دونه منْ شَيْءٍ وَهوَ الْعَزيز الْحَكيم (42)}.قال الزمخشري: هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء، بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلًا، وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية، وهو صحيح، والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل: إني أعلم أن الله واحد حق، يعني أعلم هذه الجملة، وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم، لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة، ومن هاهنا يكون الخطاب مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق؟ فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت، فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري، وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي، فقال الله تعالى: الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود إلا الله ولا إله سواه.ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس}.قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت؟ فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيرًا مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب.ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْقلهَا إلا العالمون}.يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله وفساد عبادة ما عداه، وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم، وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهرًا وكون المدرك عاقلًا، ولا يحتاج إلى كونه عالمًا بأشياء قبله، وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلابد من عالم، ثم إنه قد يكون دقيقًا في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالمًا.إذا علم هذا فقوله: {وَمَا يَعْقلهَا إلا العالمون} يعني هو ضرب للناس أمثالًا وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء.ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصًا فيها عبر، وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر، وبين ضعف دليلهم بالتمثيل، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، وحصل يأس الناس عنهم سلى المؤمنين.{خَلَقَ الله السمَاوَات وَالْأَرْضَ بالْحَق إن في ذَلكَ لَآيَةً للْمؤْمنينَ (44)}.يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكًا في صحة دينكم، ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم، فإن خلق الله السموات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر، وبرهان باهر، وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر، وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية، وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السموات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى: {وَلَئن سَأَلْتَهمْ منْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولن الله} [لقمان: 25] وقال الله تعالى: {إن في خَلْق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} إلى أن قال: {لآيات لقَوْمٍ يَعْقلونَ} [البقرة: 164] فنقول خلق السموات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب، وبيانه من حيث النقل والعقل، أما النقل فقوله تعالى: {مَا خلقناهما إلا بالحق ولكن أَكْثَرَهمْ لاَ يَعْلَمونَ} [الدخان: 39] أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال: {وَلَئن سَأَلْتَهمْ منْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولن الله} وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات والأرض ويعلم أن لهما خالقًا وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك، بل يقول إنه خلقهما متقنًا محكمًا وهو المراد بقوله: {بالحق} لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلًا، وإذا علم أنه خلقهما متقنًا يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات، فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول، ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه، ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله.{اتْل مَا أوحيَ إلَيْكَ منَ الْكتَاب وَأَقم الصلَاةَ إن الصلَاةَ تَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمنْكَر وَلَذكْر الله أَكْبَر وَالله يَعْلَم مَا تَصْنَعونَ (45)}.يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحًا ولوطًا وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال: {اتل} وما قال عليهم، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل:المسألة الأولى:أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام، وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتابًا فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال، فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال، وكثيرًا ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب، ويكون نصب الأعين، فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني: هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه، وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضًا لنفس المتكلم فإن كثيرًا ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ حتى يكاد يبكي من رقته دمًا ولو أورثه البكاء عمى، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة.المسألة الثانية:لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة؟ فنقول لوجهين أحدهما: أن الله لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من الله إلى الخلق، فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل، ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله، فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلي وأقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني: هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة: وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئًا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرًا والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلًا له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان، فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره، لكن الذكر ممكن التكرار، والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال: أتل الكتاب وأقم الصلاة.المسألة الثالثة:كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟ نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن وهو ينهى أي فيه النهي عنهما وهو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله {اتل مَا أوْحىَ إلَيْكَ} بعيد من الفهم، وقال بعضهم أراد به نفس الصلاة وهي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما، فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا وإلا لا يكون مدحًا كاملًا للصلاة، لأن غيرها من الأشغال كثيرًا ما يكون كذلك كالنوم في وقته وغيره فنقول: المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقًا وعلى هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور وهي تنهى، حتى نقل عنه صلى الله عليه وسلم: «من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعدًا» ونحن نقول الصلاة الصحيحة شرعًا تنهى عن الأمرين مطلقًا وهي التي أتى بها المكلف لله حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعًا وتجب عليه الإعادة، وهذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة والتبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته الله وغيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول: هو أن من كان يخدم ملكًا عظيم الشأن كثير الإحسان ويكون عنده بمنزلة، ويرى عبدًا من عباده قد طرده طردًا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله، يستحيل من ذلك المقرب عرفًا أن يترك خدمة الملك ويدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى لله صار عبدًا له، وحصل له منزلة المصلي يناجي ربه، فيستحيل منه أن يترك عبادة الله ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر الثاني: هو أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات وكلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه وهو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفًا، فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي الله واضع يمينه على شماله؛ على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة، ولباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم، فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفحشاء والمنكر.ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث: من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه منصبًا له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع، فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة الله ولم يبق بحكم نفسه وصار له مقام معين، إذ صار من أصحاب اليمين، فلو أراد أن يقف في غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال لا يترك، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة الله يعني من صلى عصمه الله عن الفحشاء والمنكر الرابع: وهو موافق لما وردت به الأخبار وهو أن من يكون بعيدًا عن الملك كالسوقي والمنادي والمتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس والرواس ويجلس مع أحباش الناس، فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحدًا من الجندارية والقواد والسواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله، فإذا زادت قربته وارتفعت منزلته حتى صار أميرًا حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخلان، كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي، فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته، حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلًا عن الكبائر، وفي الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول وهو أن المراد من قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} هو أنها تنهى عن التعطيل والإشراك، والتعطيل هو إنكار وجود الله، والإشراك إثبات ألوهية لغير الله.فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح، لكن وجود الله أظهر من الشمس وما من شيء إلا وفيه آية على الله ظاهرة وإنكار الظاهر ظاهر الإنكار، فالقول بأن لا إله قبيح والإشراك منكر، وذلك لأن الله تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفسًا إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال: {إنْ أمهاتهم إلا اللائى وَلَدْنَهمْ وَإنهمْ لَيَقولونَ منكَرًا منَ القول} [المجادلة: 2] فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات الله وينسب إلى من لم يلد، ولا يجوز أن يكون له ولد، ولدًا كيف لا يكون قوله منكرًا؟ فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء، وهذا المنكر وذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول الله أكبر، فبقوله الله ينفي التعطيل وبقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، فإذا قال: {بسم الله} نفى التعطيل، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} نفى الإشراك، لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق بالرحمة، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} أثبت بقوله: {الحمد لله} خلاف التعطيل وبقوله: {رَب العالمين} خلاف الإشراك، فإذا قال: {إياكَ نَعْبد} بتقديم إياك نفى التعطيل والإشراك وكذا بقوله: {وَإياكَ نَسْتَعين} فإذا قال: {اهدنا الصراط} نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد والمعطل لا مقصد له، وبقوله: {المستقيم} نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب والمشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب، وعلى هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله فينفي الإشراك والتعطيل، وهاهنا لطيفة وهي أن الصلاة أولها لفظة الله وآخرها لفظة الله في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع الله، فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله وأشهد أن محمدًا رسول الله والصلاة على الرسول والتسليم، فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة، وذلك لأن الصلاة ذكر الله لا غير، لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى الله وحصل مع الله لا يقع في قلبه أنه استقل واستبد واستغنى عن الرسول، كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك ولا يلتفت إلى النواب والحجاب، فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم وغير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول الله، ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه، ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين، واعلم أن هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي الله كوقوف المملوك بين يدي السلطان، ثم إن آخرها جثو بين يدي الله كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس، كأن العبد لما وقف وأثنى على الله أكرمه الله وأجلسه فجثا، وفي هذا الجثو لطيفة وهي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة، ولا يكون من الذين قال الله في حقهم {ونَذَر الظالمين فيهَا جثيا} [مريم: 72].ثم قال تعالى: {وَلَذكْر الله أَكْبَر والله يَعْلَم مَا تَصْنَعونَ}.لما ذكر أمرين وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: {وَلَذكْر الله أَكْبَر} وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك وتذكروهم بملء أفواهكم وقلوبكم، لكن ذكر الله أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم، وأما الصلاة فكذلك لأن الله يعلم ما تصنعون، وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم، وفي قوله: {وَلَذكْر الله أَكْبَر} مع حذف بيان ما هو أكبر منه لطيفة وهي أن الله لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة، إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة، وإنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال ولذكر الله له الكبر لا لغيره، وهذا كما يقال في الصلاة الله أكبر أي له الكبر لا لغيره. اهـ.
|